مسوّدة قصة

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
22/12/2010 06:00 AM
GMT



لي عادة لا أعرف هل هي جيدة أم سيئة، وهي الاحتفاظ بمسودات كثيرة لأغلب ما أكتب، وأعني بمسوداتي تحديداً المواد الورقية من دفاتر كبيرة وصغيرة وأوراق وقصاصات وكراريس متنوعة الأشكال والأحجام.

أخرجت (دفتر ابو الستين) مصري الصنع وقلبته فوجدته يحوي مسودات لقصص أنجزت بعضها ونشرتها في الصحف، وأخرى ظلت مسودة حتى الآن. شدت انتباهي قصة لم أعرف لماذا لم أنجزها وتكاسلت عنها كان اسم القصة هو (الحنين الى العصور المظلمة).

تدور القصة حول شاب يبحث عن أخيه المفقود خلال أحداث العنف الأهلي في 2006. وتقوده قدماه، كما هو حال الكثير من العوائل التي يخرج أبناؤها ولا يعودون، الى دائرة الطب العدلي. يفتش مرعوباً ومخنوق الأنفاس بين الجثث التي جاءت خلال ذلك اليوم ولا يعثر على جثة أخيه، وكان من الممكن ان يكون هذا سبباً في راحة نسبية يمكن أن يشعر بها خلال ذلك النهار، ولكنه، وبصورة مثيرة للدهشة، يتعرف بين الجثث على جثة ضابط كان قد أساء له في خدمته القديمة في الجيش العراقي السابق.

يتكرر المشهد في اليوم التالي، فالجثث تتجدد مع كل نهار، ويخرج من الطب العدلي ايضاً دون ان يعثر على جثة أخيه، ولكنه ايضاً، يعثر على جثة رجل كان قد اعتدى عليه في مديرية الأمن العامة زمن النظام السابق. يستمر الحال بهذه الغرابة مع كل يوم جديد، لا يعثر على جثة أخيه، ويعثر بدلاً عنها على جثة غريم او عدو قديم. يكتشف صاحبنا بعد حين، ان كل هؤلاء الموتى في ثلاجات الطب العدلي، كان قد تمنى الموت لهم مع نفسه في يوم ما.

هناك خطة قدرية غامضة على ما يبدو جعلت أمنياته تتحقق، ولكنها أمنيات لموت الآخرين فحسب. يتوقف صاحبنا ذات نهار، وهو يتحرك يائساً في بحثه عن أخيه، ويشعر بأن الأمر قد حسم وان رحلة البحث عنه توقفت. يشعر بيقين كامل ان أخاه قد قتل ورميت جثته في مكان ما مجهول او دفنت عند أطراف العاصمة. وسبب يقينه هو معرفته انه كان يتمنى الموت دائماً لهذا الأخ الأصغر المشاكس والمليء بالمشاكل. ولا يوجد ما يبرر ان كل جثث القتلى يجب ان تمر على الطب العدلي. انه هناك ملقى على مزبلة ما او في حفرة او مجرور او ظل طافياً على سطح النهر حتى تفسخت جثته وغابت ملامحه وارتحل الى مكان مجهول.

النتيجة الأخرى التي يتوصل اليها بطل القصة ان الكراهية، حتى وان كانت مجرد مشاعر مكبوتة، يمكن ان تميت الآخرين.

الكراهية هي بنزين آلات العنف والاعتداء على الآخرين، حتى وان كانت هذه الآلات متوقفة او عاطلة، فان وجود الوقود المحرك لها يشجع على تشغيلها في يوم ما.

لا نستطيع قياس هذه الكراهية او الكشف عنها بسهولة، إلا حين تصل الى السطح، لتتحول الى إلغاء للآخرين وحقهم في الحياة وفي المشاركة، وفي رفض الاختلاف، وعدم القدرة على تمثل وضع الآخر، ولو على المستوى الخيالي، ونسيان ان الآخر، مهما كان، لا يمكن ان يختفي، لأن الآخر متعدد ومتكثر.

انظر الى بطل قصتي وهو يسير في شوارع بغداد يائساً وحزيناً، وهو يقلب في ذاكرته ليفتش عن الأشخاص الذين كرههم في يوم ما، يستحضرهم مع نفسه ويطلب الغفران منهم على الكراهية، لأنه لا يريد ان يحمل وزر موتهم، مثلما لم يكن يريد تحمل وزر موت أخيه الذي فقده الى الأبد.